في شوارع مدينة تعز، تحت شمس أغسطس الحارقة، يمضي “محمد” بخطى ثابتة وحذرة، يدفع عربة صغيرة محمّلة بعلب الآيس كريم، دون أن ينطق بكلمة.
من يراه للوهلة الأولى قد يظنه غارقًا في عالمه الخاص، لكنه في الحقيقة يعيش بين الناس، يتنقل بصمته، ويكسب رزقه بشرف.
محمد يعاني من إعاقة في النطق، لكنه لم يسمح لها بأن تقيده أو تحد من مشاركته في المجتمع. يخرج كل صباح من منزله في حي جاحر بمديرية المظفر، يعبر الطرقات الضيقة، ويتحدى التضاريس الوعرة في أحياء تعز، وهو يحمل الأمل فوق كتفيه… أو بالأصح، فوق عربته.
تعجز الكلمات عن وصف تلك اللحظة التي يمد فيها محمد يده لطفل صغير، يمنحه قطعة آيس كريم بوجه بشوش وصمتٍ مطمئن. رغم أنه لا يتحدث، إلا أن تعابيره وحدها تقول الكثير. ربما أكثر مما يمكن أن تقوله الكلمات.
بين نظرات الشفقة
ليس سهلًا أن تكون مختلفًا في مدينة مثقلة بالحرب، لكن محمد نجح في تحويل إعاقته إلى مصدر احترام وتقدير. يقول أحد سكان الحي: “نحترمه أكثر من كثير من الأصحاء… لأنه يعمل ويجتهد ولا يطلب شيئًا من أحد”. لقد أصبح جزءًا من المشهد اليومي في تعز؛ شخصية يعرفها الجميع، ويلقون عليه السلام بالإشارة، ويشترون منه دون مساومة.
محمد لا يحتاج إلى الكلمات ليفرض حضوره. حضوره هادئ، لكنه قوي. في عالم مليء بالضجيج والمطالبات، اختار أن يكون صوته هو فعله، وأن يكون وجوده هو رسالته. وهو بهذا يعلّم من حوله درسًا لا يُنسى في الكرامة والاعتماد على النفس، ويغيّر نظرة الناس تجاه ذوي الإعاقة.
رسالة أمل
كل صباح، تدور عجلات عربة محمد محمّلة بالحلوى المثلجة، لكنها تحمل شيئًا أثمن من الآيس كريم: تحمل رسالة ، رسالة تقول إن العمل ليس حكرًا على الأقوياء جسديًا، وأن الكرامة لا تحتاج إلى صوتٍ عالٍ كي تُسمَع. يقول أحد الزبائن الدائمين: “أشتري منه كل يوم، ليس فقط لأن ابني يحب الآيس كريم، بل لأن محمد يذكرني أن لا شيء مستحيل”.
في ظل الصعوبات الاقتصادية، وانتشار البطالة، يقدّم محمد نموذجًا نادرًا لشخص لم يقف عند حدود الإعاقة، ولم ينتظر وظيفة، بل صنع طريقه بعرق جبينه. لقد أصبح شخصية ملهمة في المجتمع، خصوصًا لدى الشباب الذين يتذمرون من الواقع دون محاولة التغيير.
لا يحتاج محمد إلى صوتٍ ليُسمِعنا قصته ،يكفي أن نراه يدفع عربته بثبات، لنفهم الدرس: أن الحياة لا تمنحنا كل ما نريد، لكنها تفتح لنا الأبواب إذا امتلكنا الإرادة والكرامة. محمد، بائع الآيس كريم الصامت، هو صوت الأمل في مدينة أنهكتها الحرب، وصورة الإنسان الذي يذيب الصعوبات كما يذيب آيس كريم الأطفال بهدوء، وإصرار، وصمتٍ مليء بالرسائل.