أخبار

حين انطفأت الكاميرا…وبقي الضوء في العيون

لكن الرصاصة الثانية لم تكن من معدن، بل من حبر بارد. بعد ساعات، امتلأت بعض الصحف الغربية بعناوين تصفه بغير اسمه، تنتزع منه هويته الصحفية وتضعه في خانة الاتهام. وكأنهم كانوا بحاجة لقتل صورته كي لا يذرف أحد دمعة عليه.

كانت غزة في ذلك الصباح تبدو كمدينة تتنفس بصعوبة. رائحة الدخان تتسلل من الأزقة، وأصوات الطائرات تعلو على كل حديث. في ساحة صغيرة أمام مجمع طبي، نصب الصحفيون خيمة من قماش باهت اللون، تحولت إلى ملجأ مؤقت لأصوات الحقيقة في قلب الجحيم.

جلس أنس في الزاوية، يراجع ملاحظاته بسرعة، يرفع رأسه بين الحين والآخر ليتأكد أن عدسته ما زالت جاهزة.

كان يعرف أن الحياة في غزة قد تُختصر في ثانية، وأن هذه الثانية قد تكون على الهواء مباشرة.

ومع ذلك، كان يبتسم حين يلتقي بعيني زميله، وكأنه يقول: “نحن هنا… لنشهد”.

الانفجار الذي سرق الصوت

لم يكن في السماء غيم، لكن ظلّ الطائرات كان أعمق من أي ظل آخر.

لمح الجميع وميضًا، تلاه صوت معدني حاد، ثم ارتجّت الأرض تحت أقدامهم، ارتفع غبار كثيف، وأصوات متقطعة خرجت من أجهزة الاتصال قبل أن تصمت.

عندما انقشع الغبار قليلًا، كانت الخيمة قد تلاشت، وأجساد الصحفيين مبعثرة بين قطع القماش والكاميرات المحطمة. هناك، تحت ركام صغير، كان دفتر أنس مفتوحًا، وكأن كلماته كانت تحاول أن تكمل التقرير الذي لم يُرسل.

اغتيال في الميدان

لكن الرصاصة الثانية لم تكن من معدن، بل من حبر بارد. بعد ساعات، امتلأت بعض الصحف الغربية بعناوين تصفه بغير اسمه، تنتزع منه هويته الصحفية وتضعه في خانة الاتهام. وكأنهم كانوا بحاجة لقتل صورته كي لا يذرف أحد دمعة عليه.

في ألمانيا وإيطاليا وغيرها، تحولت قصة أنس من شهادة على الجريمة إلى سردية تبررها، بينما كانت عائلته وأصدقاؤه يحاولون لملمة ما تبقى من صوته في الذاكرة.

حين تصبح الصورة جريمة

بدأت ماكينة التضليل تدور. كل صورة لطفل نحيل أو أم تبحث بين الركام، أصبحت موضع شك، كأن الحقيقة لا تكفي وحدها لإقناع العالم. كان الهدف واضحًا: لا تدعوا الصور المؤلمة تصل إلى القلوب، لأن القلوب إذا اهتزت، ستسأل، وإذا سألت… قد تُحاكم.

في نشرات الأخبار، صارت المأساة مادة للجدل: “هل الصورة حقيقية؟”، “هل الفيديو مفبرك؟”، حتى فقدت القصة جوهرها، وأصبح الألم نفسه خاضعًا لموافقة المحررين.

غزة من نافذة الطائرات

بعيدًا عن الأرض، كانت طائرات أجنبية تحلق وتلقي صناديق صغيرة على المدينة المحترقة.

كتب بعض المراسلين تقاريرهم عن حرارة الجو ورحلة الطيران، يصفون غزة بأنها “صحراء أنقاض”، ويتساءلون ما إذا كانت المساعدات ستصل “إلى المدنيين أم إلى أيدي المسلحين”. لم يلتفت أحد منهم إلى السؤال الأكبر: من الذي جعل غزة صحراء أصلاً؟

إرث لا يمحى

اليوم، كلما ذُكرت غزة، يخرج اسم أنس من بين الركام. لم يعد مجرد مراسل؛ أصبح رمزًا للذين بقوا حتى اللحظة الأخيرة يحملون الكاميرا بدل السلاح، ويحفرون شهاداتهم في ذاكرة العالم.

قد تنطفئ الكاميرات، وقد تتوقف الأقلام، لكن ثمة أضواء تبقى في العيون، لا تطفئها الصواريخ ولا تكذبها العناوين.

إدارة ميكسي نيوز

ميكسي نيوز منصة إخبارية عربية تقدم تغطية شاملة لأهم الأحداث حول العالم، مع التركيز على الاخبار التقنية، والرياضية، والفنية، بتحديث مستمر ومصداقية عالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى